آخر الأخبار

نجاة عبد الله ... الأخطاء تنتج شعراً


جبار النجدي

تتسع مجموعة الشاعرة نجاة عبد الله (حين عبث الطين بالطين) لكل ما يصلح أن يكون خطأ، بل أن الاشتغال الشعري في المجموعة يصوغ وجوده على صورة أخطاء متتالية، مواصلاً فك القيود عن الأخطاء لكي تنجز شعراً، ولعل هذا الأمر لا يتحقق من باب التسليم المجازي بقدر ما يتحقق من باب طبيعة الاشتغال الشعري الذي يهدف إلى الفوز بإنتاج شعري يؤسس لملامح فرديته ويضع شعرية الأنوثة في إطار الكتابة ضمن أنظمة الإنتاج اعتماداً على قيمة الخطأ وقدرته في معرفة الصواب على وجه آخر مختلف، بوصفه علامة مرتبطة بالاستعمال أولاً وأخيراً، وابتداءً من عنوان المجموعة (حين عبث الطين بالطين) الذي يعلن عن وقوع الخطأ الأكبر والأكثر قدماً، تلتفت شعرية الأنوثة إلى هذه الإشكالية لتجعل منها مادة شعرية، يتحول الخطأ فيها إلى مصير يتعذر محوه، لكنه يواصل السير في طريق ينتهجه، ويشكل فرصة من فرص توسيع مفهوم الكتابة الشعرية، التي من شأنها ان تعزز تحولات المعنى والدلالة في الشعر، ان الأخطاء لا تختصر في هذه المجموعة على النكهة الواحدة، وإنما هي بمثابة بنية ذات أبعادة مركبة، ومتعددة الأصوات، تمتلك الشاعرة بواسطتها مهارة التعرف على ما تضمره الأخطاء من حولنا، حيث يتسع الخطأ لأمور تفوق دالة الصواب، ان الخطأ لدى الشاعرة نجاة عبد الله يكتسب معان إضافية، لم نألفها تحتم أن نقف بمواجهة قصائد المجموعة كي نقرأها قراءة خاطئة أيضاً، غرضها الوقوف على ما تولده طقوس معرفة الأخطاء، أنها أشبه برمية الرامي الذي يتعلم الكثير من أخطاء رميته ولا يتعلم شيئاً من إصابة الهدف، ومن هذا المنطلق فأن الشاعرة تهب نفسها للأخطاء:

أهذا العمر لك

أيتها الأخطاء

----------

أعوذ بصمتك هائلاً

كما الخطيئة

خائناً

إذا كان الصواب شيئاً معلوماً ومفرغاً من أي سر، فأن مجهولية الخطأ تسمح له بأن لا يستكمل حضوره أبداً ويهيم في الأسرار، بمعنى أنه شيء لا يبقى في موضعه، ولا يمنح نفسه لأي تحديد أو تعيين.

إن الأخطاء متضمنة في الزمن ومنتشرة في كل مكان، ولعلها الأكثر فاعلية في الاشتغال الشعري لدى الشاعرة (نجاة عبد الله) المتجهة إلى المعنى المتولد من بنية الخطأ، في فضاءات مطلقة الحدود وموصولة بالمتغيرات، فهو فريد من جهة كونه يصلح سوءاً، وفي ذات الوقت بإمكانه ان يكون شرطاً للصواب، لذا فأن تعددية نظرة الشاعرة للخطأ يتيح لها اللعب لمصلحة الاشتغال الشعري، ولا يشاطرها في ذلك أحد، فمن خلال الأخطاء بإمكان المعنى الشعري ان يأخذ دور جرس الخطر الذي يمارس تحذيراته:

احذر الدرس

قد تكون الأول

في لائحة الأخطاء

------------

ايتها الذكريات

جففي دموعنا

ولنصفق كالحمقى

حينما يتبادلون فوزاً خاطئاً

------------

القبر متسع

بارد وأليف

كلهم يترقبون خطأ في يدك

دهشة في عينيك

يقضمون

تفاحة

غيبتك الباردة

نستدل من ذلك ان الخطأ حاضر بدرجة أكبر في الضمير الأنثوي المتوجس الخذر، لكنه يشكل مساحة جديدة لأنثوية الاشتغال الشعري الذي يستدعي الأخطاء ويشتغل بموجبها، بطريقة بعيدة كل البعد عن التصورات السائد في أذهاننا عنها إذ يكون بمقدور الأخطاء أن تخفي شيئاً، وتديم نفسها بمقتضى متجدد ينتج أشكالاً مختلفة لتحولات المعنى:

في كل قمر

وجه لخطيئتك

جرح تحتمي بغيابه

جمرة تشبه

تفاحتك المنطفئة

وضوء لضحكة إبليس

-------------

أما في الحروب فيدفع فقدان الصواب لبنيته، إلى ان يكون الصواب خارج الصواب ذاته، ان الصواب في هذه الحالة لا يوفر أية موثوقية ولا يدرأ عن نفسه سطوة أي خطأ، فإذا كان ثمة صواب في الحروب فأنه سيذهب في كل لحظة باتجاه الخطأ المتحصل من بنية الحرب أو أي حدث بوسعه أن ينتج أخطاءً:

الأمهات اللواتي

غادرن الحرب على عجل

لا يعرفن غير شواء الخبز

فوق العروق اليابسة

يا رب اجعلها

أكثر ترفاً من النار

------------

الخريف بلد الأمهات

جاء وحيداً

يقبّل الأبواب

إن ثمة حشد من المفردات التي تدل على أحداث تنجب أخطاءً بالضرورة ولا تنفك الشاعرة نجاة عبد الله بترديدها من مثل (الضباب، الغياب، الحروب، النار، نواح الأمهات ... الخ) أن هذه المفردات توحي بمغزى حدوث خطأ ما ولعلها تماثل مغزى التلويحات التي تعد هدايا اللحظات الأخيرة وتشير إلى وجود خطأ أدى إلى فراق.

إن الضباب الذي يشوش الرؤية مثلاً يوفر الفرصة لوقوع أخطاء مختلفة، أما (نواح الأمهات والحروب والنار) فهي من الأخطاء التي تلحق بنا هزيمة جسدية، أنها نقاط استدلال لما يواجه حياتنا من خطر، وهذا يعني بالنتيجة ان الصواب ليس بمقدوره ان يقصي دور الخطأ وقد يمارس نشاطاً بديلاً عنه أحياناً، أنه رهان ينفلت ليتحقق بسواه، وهذا يعني بالتالي ان اللعب الشعري على فكرة (الخطأ) هو نوع من أدامته وعدم الفكاك منه كونه متضمن في الزمن ولا نقوى على تحجيمه، أن الأمر يماثل تماماً المصير الجبري الذي لا يتزحزح في (خطيئة آدم):

التفاحة في يدك يا آدم

واللعنة في عينيك يا إبليس

هاتها من يدك

هاتها من عينيك

ودعا الخديعة ترقد في سلام

----------------

كلما آتيك بها تأتي إليّ

خجلى،

مثل شجرة تخشى تفاحها وخطاياها

إن النظرة إلى فكرة (الخطأ) بهذا المفهوم شيء لا يمكن تأسيسه إلا بالشعر، مع التذكير باستحالة أن يكون (الخطأ) حدث لا زمن له، انه مفهوم زمني قبل كل شيء، ومثلما يكون من المستحيل ان نقابل بين لحظتين زمنيتين، فلا يمكن ان نقابل إطلاقاً بين الخطأ والصواب فبقدر ما يبدو الصواب في اللعب الشعري حالة ساكنة ومفرغة من فاعليتها بقدر ما يستغرق الاشتغال الشعري بحوالك الخطأ وغوامضه.

إن أوجه الغرابة في هذه التجربة الشعرية يتمثل في إمكانية ان يقوم الخطأ بتأهيل الشعر في سياق نمط اشتغالي بعينه، مما يجعل محتماً على الشعر ان يتواصل وينخرط في تنويعات مختلفة تقوى على تشغيل أدواته في كل بيئة مهما بدت مضادة وفاقدة لدلالة الشعر:

بعباءتها البيضاء

تهبط كالأخطاء

آلامك المعلقة على الشجرة

----------------

فوق الشجرة

آدميون

يسعلون

ويرمونك

من فوق خطيئتهم

يحيلنا اشتغال نجاة عبد الله الشعري إلى ان الشعر يقع على الدوام خارج بنيته الراهنة، انه غير مستمد مما هو مصمم وبالتالي فهو نمط إنتاجي منفلت ومار حول العالم وقادر على الاشتغال في أبعد خبايا الأشياء وتمظهراتها.

0 التعليقات

المناقشة والتعليقات