آخر الأخبار

ترجمة كتاب بصرياثا والحاجة إلى أدب محمد خضير



ترجمة: نجاح الجبيلي 

إن عشاق أدب الرحلات سيعلمون نوع الكتاب الأنيق والمثير للعواطف وحتى الثمين الذي يجمع روح مدينة. التاريخ والاسطورة والحكاية تمتزج في غموض التبصرات المشرق والروائح والانطباعات. مشعوذو المدينة ورجل الدولة والشعراء والمحظيات والمتسولون والتجار كلهم لديهم رأي. الاسواق تتحد مع الفواكه حلوة المذاق والحكايات البذيئة؛ القصور الفاخرة تهمس بأسرار السلطة والعاطفة والخيانة. في الميناء التجار يرحبون بالغرباء الذين سيضيفون ظلالا أكثر إلى لوحة ألوان المدينة. جان موريس التي أضافت الكثير لتجميل هذا النوع من الكتابة حاكته بصورة ساخرة بصورة ذكية (وقاسية) في كتابها " هاف".

بصرياثا كتاب منشور حديثاً يضع كل هذا الحمل الغني بالألوان وأكثر. مكتوب بشكل فخم وبإحساس عميق فهو يمزج ذكريات المؤلف الحية مع رواية القصة التاريخية والتعليق الحضاري كي يمسك بالجغرافية الداخلية لجوهرة سرية. أين نجد بيت الكنز هذا الغني بالخرافة والعجب؟ لا في اسطنبول أو البندقية أو طنجة. إن مسرحنا الدخيل يقع في البصرة.

وبينما كانت القوات البريطانية تتوارى في قاعدتها في المطار إذ فشلت في فرض الأمن في مدينة البصرة لم تظهر النخب البريطانية ،سواء أكانت المؤيدة للحرب أم التي تقف ضدها، أي اهتمام حقيقي بالعراق وشعبه.

وهذا هو السبب في الحاجة لقراءة أدب محمد خضير. من بين المئات من الكتب التي نشرت في المملكة المتحدة عن العراق منذ 2003 كان هناك القليل جداً منها يدور عن ثقافة البلد والحياة الفنية لشعبه. كم مرة أعاد المذيعون والمحررون خطاب الكولونيل تيم كولنز عشية الحرب بعنوان "وصمة قابيل" .... لكن كم مرة سألوا الشاعر (المولود في البصرة) المقيم في لندن سعدي يوسف عملاق الأدب العراقي والعربي عما يكتب أو يقرأ؟ المسألة لا تحتاج إلى جواب. إن العراقيين يلفتون النظر كجثث أو رجال دين أو سياسيين لا كشعراء.

يكتب محمد خضير بدقة الشاعر وتركيزه لكن هذا المعلم من البصرة رسخ اسمه في القصص القصيرة. وقد نشر كتاب "بصرياثا : صورة مدينة" عام 1996. لهذا فإن مشاهده في الحرب ( الليالي " مرشوشة بآلاف طلقات المدفعية وصفارات سيارات الإسعاف المسرعة") تنبثق بصورة رئيسة من مأزق الحرب العراقية الإيرانية البشع في الثمانينيات. قام وليم هتشنز في ترجمته لكتاب بصرياثا التي صدرت عن دار نشر فرسو،بإعادة خلق هذه الصورة للمدينة المصنوعة من الماء والرمل والحلم؛ حلم يقظة يرسو في مشهد طبيعي دائم للصحراء والنخيل والقوارب والأسواق.

من سباق الدراجات الهوائية على الكورنيش إلى الدور المشرف للمتسولين والمعرفة المثيرة بالنهر والميناء والفنار ( "العلامة الأخيرة على الطريق إلى الهند") يمزج خضير ذكريات مدينته مع السراب السحري الذي يستحضره الشعراء والرحالة والقصاصون. ربما يطفو نثره بصورة متحمسة فوق الأرض لكن هذا الكتاب يكشف في كل صفحة لمحة من الحقائق الإنسانية التي أغفلتها تقارير الحرب في عام 2003 والسنوات اللاحقة.

إن المحتلين البريطانيين ضعاف القلوب في البصرة أهملوا مرة أخرى الكتّاب العراقيين لكن خضير يفتتح الفصل الرائع عن قناة شط العرب بمقتطف من قصيدة ت.س. إليوت " ذا دراي سلفجز".رسالة الوداع تقول أنه يجب على كتابه أن " يعبد الطريق للقصص التي تأتي بعده". هل تستعمل التقارير المستقبلية عن البصرة الكفة بشكل متسامح مثل هذا الكتاب الذي يجمع بين إليوت وكالفينو، وبين ابن بطوطة وألف ليلة وليلة؟ إذن سوف يعرف المحتلون المكان الذي يجدون فيه وصمة قابيل. في المرآة.

0 التعليقات

المناقشة والتعليقات