* جبار النجدي
الى ابنتي البكر غفران في الذكرى الحادية عشرة لرحيلها 14/4/2004
أحسب أن أفضل فهم للحياة جرى اعتماداً على فكرة الموت ، فهو الذي يمنح الجسد الحي هويته الأخيرة المقترنة بالتراب لا سيما وأن الحياة تقودنا جميعاً إلى النهاية ذاتها فحالما يتخلص الجسد من مأزق الولادة حتى يقوم الموت بأداء دوره الذي يستمر بقدر استمرار حياتنا لذلك فإن كل ولادة تكرر الموت فالأرض تنتظر أجسادنا على الدوام. يصر ( هنري بارابوس ) على القول ( إن الإنجاب ليس إلا التضحية بمخلوق ) ومعنى ذلك أن العيش لا يؤمن لنا الحماية من الأقدار وأن الحياة تتوعدها المخاطر وهي متداخلة أبداً مع الموت فبذرة الحياة مشروطة ببذرة الموت إذ ليس هناك أصل آخر للحياة غير الموت ولكن برتب متفاوتة ، غير أن أفضع الهزائم الجسدية تحدث حينما يستجيب جسد غض للخسارة الأبدية. ماتت ( غفران) ميتة عاجلة وعلى الفور هاجمتها المنية وهي ترفل بنعومة ثوب زفافها ، كانت صغيرة على الموت ، لم تكن بعمر يؤهلها لتلقي عقوبة الحرمان من الحياة ، كانت تزين نفسها أمام مرآتها وترش الأيام بوابل عطرها ولم تكن تعلم بأنها تعد نفسها لدار الفناء.. تحدث الناس عن أعجوبة موتها الذي استقبلته من دون استعدادات ولم تحمل معها إلى القبر غير ستة عشر ربيعاً تاركة وراءها لغز موتها الغامض وهكذا بدأت رحلتها القصيرة التي ستطول على طريق الفناء لعلها الرحلة الأقرب إلى أسطورة السفر الأبدي ، رحلة اللحظات العصيبة بانتظار لحظة الموت التي نعيش من أجلها جميعاً رغم تشبثنا بغريزة الحفاظ على الذات ، أعلم أن الدنيا موطن للأشياء الراحلة ولكن ليس قبل أوانها. واجهت ( غفران) موتاً فتاكاً مفاجئاً وانطفأت مثل انطفاء الشمس خلف غروب أبدي ، لم يمسس جسدها سقم عضال يسهل عليها عملية الاستعداد للموت ، كنت أستطلع في وجهها أسرار موتها وذبول ابتسامتها التي لا تقهر وحينما نشرت الشمس آخر وهج لها حل الغسق وقبل اختلاط النور بالظلمة كان الموت أقوى من أي احتمال كانت مجهدة الأجفان ورغم ذلك تبتسم بكل قواها لتصنع براهين موتها عبر مظاهر احتضار قاسية. ما أسرع أجلك أسلمت روحك لمشيئة الموت وآلام العقاقير القاتلة وانقطاعات خراطيم التنفس الاصطناعي التي عجلت بموتك. لم يكن تابوتك الصغير سوى قبر متنقل ووحدة قياس شاملة لكل الأجساد البشرية التي ستغشاها ظلمات القبور وأبوابها التي تنغلق انغلاقاً لا يرحم.
إشارة : * غفران : ابنتي البكر التي بكرت بموتها في 14 / 4 / 2004 أي قبل 11 سنة من الآن. ( والبقية يرويها الأسى ) مقطع من مسرحية لشكسبير.
