آخر الأخبار

البصرة جنة البستان .. سحر المكان وطرافة الشخصيات

الشاعر مهدي محمد علي



فيصل عبد الحسن


في الكثير من كتب أدب السيرة تغدو مدينة الكاتب جزءا من حياة كاتبها، وفي حالات كثيرة تصير المدينة هي الهدف من كتابة السيرة، وتجيء من خلالها سيرة الكاتب كفرد من الأفراد الذين عاشوا في تلك المدينة، ذلك ما عرفناه في سيرة الشاعر الداغستاني رسول حمزاتوف في كتابه' داغستان بلدي' و' الطريق إلى غريكو' لنيكوس كازنتزاكي، ويجيء كتاب' بصرياثا ' لمحمد خضير، كسيرة لمدينة البصرة.
وكذلك كتاب ' البصرة جنة البستان' لمهدي محمد علي، الذي نهل الكاتب والشاعر مهدي محمد علي فصوله من حياة هذه المدينة العراقية العريقة، التي يمتد تأريخ تأسيسها إلى ما قبل أكثر من أربعة عشر قرنا، وبالتحديد إلى سنة 14 هجرية، مما جعل منها وجهة تاريخية وحضارية عريقة، رويت حولها الحكايات، وخطت عن حوادثها الكثير من شهادات أدبائها وكتابها، وما كتب عنها في كتاب السيرة الأخير، الذي بين يدينا يندرج تحت بند سيرة مدينة البصرة من خلال ما عاشه أديب ولد في حوز من أحوازها الجنوبية الكثيرة، فهو يقول في بداية سيرته ' جئت إلى الدنيا بعد الطوفان الثاني الذي ذهب بما تبقى من جنة البستان '

ويؤرخ الكاتب ولادته بفيضان البصرة السنوي، الذي يبدأ في منتصف آذار من كل عام بسبب زيادة منسوبي دجلة والفرات وذوبان الثلوج في المناطق الجنوبية من تركيا، وجبال شمال العراق، فتمتلئ مياه النهرين دجلة والفرات بمياه غزيرة تنحدر نحو الجنوب، فتغرق في طريقها الكثير من الأراضي المحيطة بالنهرين، فيزداد منسوب نهر شط العرب، وتغرق الكثير من بساتين أبي الخصيب، والطريق المار جنوبا صوب مدينة الفاو، وقد كانت الأرض التي أقيم عليها بيت الكاتب، وأهله في أحد البساتين المطلة على شط العرب في منطقة ما بين منطقة العشار، ومدينة البصرة القديمة.

يدهشنا الكاتب بقدرة ساحرة لرسم أمكنة البصرة وحياة أهلها، فتجد مناظرها مرسومة بلغة دقيقة معبرة، و وعادات الناس فيها، والكاتب يستعين بالنثر مرة وبالشعر مرة ليضع جمال المدينة وقصص الذين عاشوا في البصرة، وعاصرهم تحت مجهره المكرسكوبي، ليقدم لنا حياة ضاجة بالبساطة والفقر، والحب والأمل بالغد القادم السعيد، الذي يقرأه الكاتب في عيون الناس، يقول عن ذلك في هذا المجتزأ من احد فصول الكتاب: ' أرسم في هذا الكتاب صورة لمدينتي مدينة البصرة في الخمسينات من القرن العشرين، وهي سنوات طفولتي من عمر الخامسة حتى الرابعة عشرة .. أنها صور مرئية وذكريات، أحسست – ومنذ أكثر من عشرين عاما- بأنها مهما تبهت فإنها تتألق بمزيد من العمق بحيث تصبح معينا يغتني بالأمثلة الإنسانية والحضارية'

ويحدثنا الكاتب عن ذكرياته المرتبطة بالبصرة، فيقول ' لسنوات طويلة ظل يتذكر ويتحسر ويتمنى لو انه استطاع أن يرشق ذلك الجمع الذي أحاط بالمنضدة الكبيرة، التي طرحوه عليها كي يقطعوا ذلك الجزء 'من اللحم، لئلا يظل ' نجسا ' وغير مسلم، كما علموه.. ظل طوال تلك السنين يتمنى لو يرشق أولئك الأطباء والمضمدين والجمع كله بـ (...) ' يشنترها ' في وجوههم فيهربون.. ولكن الذي حدث هو انه أفاق من كل ذلك واهنا، يخاف أن يحرك شفتيه بالكلام، لئلا يتأذى، مأخوذا بمظهره الجديد: ذلك الجلباب الأبيض الشفاف، وضرورة أن يظل ممسكا بمقدمته، وهو يمشي بل وهو يتمرن على المشي بعد ذلك الحادث !!'

ويروي الكاتب عن أخته الصغيرة التي مرضت وماتت، والحزن الذي خيم على العائلة لأيام كثيرة، وعن أمنيته حين كان صغيرا، فيوردها لنا بما يشبه المقطع الشعري: في سن الرابعة/ كنت أخير، بين أن أظل كما انا/ أو أن أكون سمكة؟ / فأجيب بلسان مكسور/ ثمكة !! ' ويحدثنا عن أخيه الأكبر منه ' عبد الحميد ' الذي يعلمه والده أصول تلاوة القرآن الكريم، وحين يخطأ يعاقبه بالضرب بالمروحة اليدوية، ويتعجب الصغير من عدم فرار أخيه إلى خارج الدار، وهو يراه يدور في الغرفة متفاديا ضربات المروحة اليدوية، التي لا ترحم.

ومن خلال السيرة الذاتية للكاتب نرى مدينة البصرة من خلال عيني صبي، فنرى نهرها الكبير أيضا من خلال عينيه وفهمه الطفولي، فهو يقول عنها: ' انكشف أمام الجميع مشهد النهر والضفة الأخرى، التي تمثل شارع المدينة الرئيس الذي يربط البصرة القديمة بالعشار .. انكشف كل ذلك حين أطيح بالنخيل المحاذي للنهر، وشق الطريق الجديد، موازيا للطريق العتيق على الضفة الأخرى لنهر العشار' ويقول عن مدينة البصرة التي بدأت تتشكل من أحشاء غابات النخيل، والبساتين، بوصف أخاذ يعبر عن الشعور بالفجيعة العميقة لمصير البيئة ودعة القرية التي يعيش فيها الصبي وأخذت تتحول إلى جزء من مدينة كبيرة: ' ولقد امتلأت المنطقة بالآلات التي تكسر الأحجار الكبيرة، وتلك التي تسوي الأحجار المفتتة على الطريق، تمهيدا لتزفيته فيما بعد.. وشهد أهالي المنطقة الآلات العجيبة التي تزيح الأتربة والصخور، وتلك التي تطحن الصخور، تمهيدا لفرشها على أرض الطريق .. كان العمال يمضون في نشاط، وهم يستحدثون أغاني العمل والأهازيج حول هذه الآلات، وقريبا منهم يتجمع كل الأطفال، يراقبهم عدد غير قليل من الكبار'.

مدينة البصرة أو جنة البستان كما يسميها الكاتب نمت وكبرت من خلال الكتاب ومن خلال حياة مؤلف سيرتها، فنموها سار بموازاة مع كبر عمر كاتبها التدريجي، وكلما قرأنا صفحات جديدة من سيرتها شعرنا بالمحبة العميقة، التي يكنها المؤلف لمدينته ولأهلها الطيبين، ومن خلال ما رواه من طرائف شخصيات بصرية معروفة في سيرة أديب من البصرة، وقد عاشت هذه الشخصيات في هذه المدينة واشتهرت وصارت معلما من معالم المدينة وتأريخها، كأحمد الوطن، الذي كان يروج لأفلام سينما الوطني، وتومان المهرج، البصري الشهير الذي كان يروج لسينما الكرنك، والمماحكات بينهما، وحسن الكردي، صاحب المفارقات والطرائف في ' سوق الهنود ' الذي كان يضحك الناس بحركات جسده الفارع، وصالح الجايجي، الذي افتتن بالفيلم الريفي ' فتنة وحسن ' الذي عرض في السينمات العراقية بين عامي 1956-1957 فشاهده احدى وعشرين مرة، وحفظه عن ظهر قلب، فأخذ يمثل مشاهده التي حفظها لرواد المقهى بأسلوب كوميدي ساخر، يضحك رواد المقهى التي يعمل فيها.

والخياط العم نجف، الذي اشتهر بطرائفه، والذي توقف تماما عن قول طرائفه لأنه عشق فتاة من السادة، وكان أهلها يشترطون على من يتقدم لها أن يكون سيدا أيضا من نسل الرسول صلى الله عليه وسلم، فأدعى أنه سيد وذهب إلى أهلها ليخطبها، ووافقوا على زواجه منه، وتزوج بمن أحب، وانجب منها طفلا سماه هاشما، على عادة السادة ثم جاءته يقظة الضمير، فشعر أنه كذب كذبا عظيما على الله ورسوله بأدعائه الكاذب، وبالرغم من أن أهل زوجته عرفوا كذبته، وتظاهروا أنهم لا يعلمون، وأن زوجته سامحته، ورضيت بما قسم الله لها، لكنه ظل يذهب إلى أضرحة الأولياء ليطلب من الله المغفرة، لكذبته، ومع هذا فقد عاش وسواسا مرضيا، أوصله للجنون، لكنه مع هذا الجنون فقد كان يقوم بعمله كأفضل خياط في البصرة، ولكنه توقف عن الاختلاط بالناس في غير فترة عمله في دكان الخياطة، وأخذ يقتر في مأكله ومشربه، ويعاقب نفسه على ما اقترف من ذنب بالسهر والبكاء، ليكفر عن ذنبه كما كان يعتقد، حتى ذبل عوده وصار نحيلا، يقعده عن العمل أبسط مرض، وأقل وعكة، لقد أ شعرنا الكاتب والشاعر مهدي محمد علي، وهو يكتب عن هذه الشخصيات البصرية، أنه يعيد للمدينة ما فقدته من ماضيها الجميل، لقد أضاف الكاتب للمكتبة العراقية والعربية أحد كتب السيرة المهمة عن مدينة البصرة الفيحاء، فمن كان يبحث عن البصرة خلال الخمسينات والستينات، سيجدها نابضة بحياة أهلها في هذا الكتاب.

0 التعليقات

المناقشة والتعليقات