اليمامة - باسم حسين
أولت الحضارة الإنسانية اهتمام كبير بالنشاط الزراعي لدرجة أن أقدم الحضارات (البابلية والسومرية والفرعونية ) اتخذت آلهة عرفت آنذاك بـ ( آلهة الخصب والثمار) ،تقدم لها القرابين وتقام لها الطقوس لاعتقادها أن آلهتهم تلك سبباً في نمو وازدهار الزراعة لديهم ، ومع الزمن اهتم الإنسان بهذا النشاط وراح يدخله ضمن توجهه الجديد (الصناعة ) ليكون المكمل في بناء حياته المتطورة ولتكون هذه الخطوة مكلمة للنمو والازدهارالذي يسعى لتحقيقه .. ديفيد موريس وهو نائب رئيس معهد الاعتماد العالمي على الذات الواقع في كل من مينابوليس وواشنطن والذي يدير مشروع القوانين الجديدة يشير بمقال له نشرته في نيسان 2008 مجلة American prospect وأعادة نشره مجلة الثقافة العالمية بعددها 152 في حزيران 2009 ..
يشير موريس إلى أهمية ودور الزراعة في المجال الصناعي بالقول :
أن المجتمعات الصناعية ومنذ أقل من مائتي عام مضت ذات اقتصاديات كربو هيدرات ويضرب أمثلة على ذلك التوجه بالقول :
في عام 1820 استهلك الأمريكيون طنين من النباتات مقابل كل طن من المعادن ويضيف:
لقد شكلت النباتات المادة الخام الرئيسة في إنتاج الأصباغ ،والكيمياويات ،والدهانات ، والأحبار والمواد المذيبة ومواد البناء وحتى الطاقة ،ديفيد أشار في مقالته تلك إلى الايثانول / الكحول الاثيلي المشتق من الذرة الصفراء عام 1860 كأفضل المواد الكيمياوية الاصطناعية مبيعاً حيث يقول :
بعد انهيار التجارة الدولية ومن بعدها اندلاع الحرب العالمية الثانية اتجه العالم لإنتاج المواد المحلية لتعويض المواد المستوردة ،حيث ذهب البرازيليون الى صناعة المواد البلاستيكية من حبوب القهوة ،فيما تمكن الايطاليون من صناعة أطقم الملابس الأنيقة من بروتين الحليب ، موريس كشف أيضاً بمقالته المذكورة إلى التطور الذي أصاب الصناعة لاعتمادها على النباتات ومنها تنويهه عن السيارة التي صنعها عام 1941 (هنري فورد ) قائلاً: تمكن فورد من صناعة جسم لسيارة مستعيناً بألياف نباتية مختلفة من ضمنها لوحة أجهزة القياس الأمامية والدواليب،وأغطية المقاعد من بروتين الصويا .
في المقالة تلك أشار ديفيد موريس الى جملة من التوصيات تعتبر غاية في الأهمية تتعلق بالاهتمام بالجانب الزراعي ومما جاء فيها :
يجب أن تؤدي النباتات دوراً صناعياً مهماً إذا ماكان لنا أن نحقق اقتصاداً مستداماً قابلاً للتجدد .،أما الأمر الآخر فيتمثل بالاهتمام بالمزارعين ،حيث يقول : تهب الرياح بغض النظر عن السياسة العامة ويستطيع صانعوا السياسة التركيز على تطوير تكلوجيات لجني الفوائد منها ، لكن الزراعة تتطلب مشاركة حماسية من المنتفعين بها – الزراعة ومالم يكن هناك حافز اقتصادي للمزارعين فلن تظهر الطاقة والمواد من الكتلة الحيوية بكميات ذات شأن.، أيضاً يشير في نقطة أخرى إلى انه وبخلاف مصادر الطاقة المتجددة الأخرى تستطيع الزراعة أن تلبي مجموعة من الاحتياجات كالغذاء والوقود والكساء ،والبناء والورق والكيمياويات ، طبعاً المقال أشار إلى جملة من النقاط المهمة الأخرى التي تدلل على أهمية ومكانة الزراعة اقتصادياً وصناعياً ،وما يهمنا بعد هذه المقدمة أن نتناول الواقع الزراعي في العراق وما وصل إليه هذا القطاع الحيوي من تدهور وفي جميع المجالات ،حيث يمكن القول ان القطاع الزراعي تأثر كغيره من القطاعات الحيوية الاخرى بمجريات الأحداث السياسية والعسكرية التي كان ومايزال يشهدها العراق وتحديداً الأحداث التي أعقبت الاجتياح الأمريكي لهذا البلد عام 2003، حيث إن الجانب السياسي بشقيه ( الداخلي والخارجي ) قد ألقى بظلاله على هذا القطاع خاصة وان الحكومات المتعاقبة التي تشكلت بعد احداث عام 2003 انشغلت جميعها بالوضع الأمني وأهملت القضايا الأخرى، لكن وعلى أية حال لابد من القول إن دول جوار العراق استغلت المحنة التي يمر بها هذا البلد وراحت تتحكم في المياه المتدفقة اليه عبر إنشاء السدود وتحويل مجرى بعض الأنهار مما الحق ضرراً فادحا في الزراعة وكذلك الثروة الحيوانية ، حيث لجأ الكثير من الفلاحين إلى الهجرة بعد أن جفت الأنهار وتحولت بساتينهم إلى ارض جرداء بالإضافة إلى نفوق مواشيهم وبإعداد كبير وفي النهاية خسائر مادية لاتقدر بثمن وخير مثال على ذلك الفاو التي يجب عدها منطقة منكوبة بسبب ارتفاع مناسيب المياه المالحة القادمة من الخليج بعد ان انخفضت الى حد كبير مناسيب مياه شط العرب تأثيراً بانخفاض مناسيب دجلة والفرات لقيام الجانبين الايراني والتركي بالتحكم بكمية المياه الواردة للعراق عبر انشاء السدود وتحويل مسارات بعض الانهر (الكارون ) مثلاً ، طبعاً الزراعة كما نعلم ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالصناعة فلا يمكن لاي بلد مهما بلغ مرتبة عالية من التقدم ان يستغني عن الزراعة ولا يمكن لأي بلد زراعي ان لايشهد نهضة صناعية ومن هذا المنطلق نرى دول العالم المتحضرة تهتم بالقطاعين معاً (الزراعي والصناعي) وفي العراق نرى ان مسألة تأهيل القطاع الصناعي مرتبط بجدية الحكومة في أعادة تأهيل المعامل والمنشآت الاقتصادية المهمة ، فإذا ما كانت الحكومة عازمة على إعادة تشغيل المعامل في عموم العراق فأن عليها أولاً الاهتمام وبشكل جدي في انعاش القطاع الزراعي عبر دعم هذا القطاع بشتى السبل ، لكن وهذا هو المهم هناك مسألة غاية في الأهمية ألا وهي الوضع السياسي الراهن في العراق ،فالمتتبع للشأن العراقي يرى ان هناك علاقة وثيقة بين الوضع السياسي الحالي وبين تدني الحاصل في الزراعة ودليل قولنا ان بعض السياسيين يدارون علاقاتهم مع دول الجوار على حساب البلد ووضعه الانساني والاقتصادي لمصالح وحسابات خاصة وهو مايجعله غير قادر على إقناع تلك الدولة على انها السبب وراء الازمة الحالية للمياه ، كما ان انشغال السياسيين بالبحث عن مكاسب سياسية تجعلهم غير متحمسين لمتابعة قضايا أخرى كما هو الحال بالنسبة للانتخابات وان كانت تلك القضايا ذات أهمية بالغة ، المهم في كل هذا هو إذا ما أريد للقطاع الصناعي أن يتحرك وان يعمل وان تتحرك فيه عجلة الإنتاج لابد أن تهتم الحكومة بالقطاع الزراعي ، لأنه لا يمكن لمعمل التاجي المتخصص بإنتاج الدفاتر المدرسية أن تدور فيه عجلة الإنتاج مالم تهتم الحكومة بزراعة القصب والبردي باعتبارها المادة الأولية للإنتاج ، كذلك الحال بالنسبة لمعملي البصرة وميسان ،إذ كيف يمكن لهذين المعملين أن ينتجا أطباق بيض المائدة أو الكارتون بمختلف أنواعه وأحجامه دون أن تكون هناك زراعة للقصب والبردي ؟، أيضاً الحال ينطبق على معامل أخرى كمعمل تعليب كربلاء ومعامل الزيوت النباتية والألبان .... الخ ،لا يمكن لهذه المعامل أن تنتج ولايكون هناك اهتمام بالزراعة ، لأنها العمود الفقري للكثير بل اغلب الصناعات ، معامل الاسمنت مثلاً يكمن أن تتأثر هي الأخرى بالانتاج الزراعي ،إذ لايمكن إنتاج وتسويق السمنت مالم يكن هناك أكياس ورقية خاصة وإذا لم تتوفر هذه الأكياس الورقية ما الذي يحدث ؟ ، الذي يحدث هو أن صناعة السمنت سوف تتلكأ وربما تتوقف لعدم وجود تلك الأكياس الورقية وان وجد البديل سوف يؤثر في النهاية بسعر المنتوج النهائي!، وعليه إذا ما أرادت الحكومة أن تؤهل القطاع الصناعي لابد أن تبدأ من الآن بتأهيل القطاع الزراعي ،وان تضع المعالجات الآنية والبعيدة المدى لتحسين اداء القطاع الزراعي ، نعم قد لا نجني ثمارها سريعاً لكونها تحتاج إلى صبر قد يمتد لسنوات لكن المهم في ذلك هو أن نخطو خطوة باتجاه الأمام ،ومنها ان تلجأ الحكومة إلى توقيع اتفاقيات مع دول جوار العراق (تركيا ،إيران ، سوريا ) يمكن من خلالها ضمان تدفق حصة كافية من المياه إلى الأراضي العراقية ، وان تعمل على كري الأنهار والترع وان تدعم الفلاح بالأسمدة والمبيدات الزراعية وبالآليات وتزويده بالمحروقات وتقديم القروض وان تعمد على شراء المحاصيل الزراعية بأسعار تشجيعية تعين الفلاح وتشجعه للاستمرار بعملة ،أيضاً على الدولة أن تساهم مساهمة فاعلة وجادة بتحسين التربة عبر تخليصها من الأملاح من خلال إنشاء المبازل ،كما وعليها ان تشجع الفلاحين على العودة إلى مناطقهم وان تبث الوعي الثقافي بما يتلائم مع طبيعة عملهم وينسجم أيضاً مع البيئة الريفية العراقية ،كل هذه المسائل يمكن أن تنهض بالواقع الزراعي ويمكن ان نرى ان أشجار النخيل عادة للشموخ مرة أخرى وبساتين الكروم والبرتقال قد تجددت وبالتالي تدب الحركة من جديد في عجلة الإنتاج في المعامل .
